نادر عزالدين
"أخضر" هي كلمة السر و"بدون عواطف، الله يرحمه" هو الشعار، الخطة وضعت منذ اليوم الأول لغزو لبنان عام 1982، أما الهدف فهو تصفية أكثر من 3000 فلسطيني ولبناني من المدنيين العزّل. قبل غروب شمس يوم الخميس 16/9/ 1982 ينطق آرييل شارون رئيس الوحدة الخاصة ( 101 ) في الجيش الإسرائيلي آنذاك بكلمة السر معلناً أن الطريق إلى الدم أصبح مفتوحاً، الميليشيات العميلة تتقدم وتبدأ المجزرة!
إنتهت المهمّة في 36 ساعة وحقق الهدف. ففي مثل هذا اليوم من العام 1982 كان جيش العدو وعملائه قد انتهوا من تنفيذ واحدة من أفظع جرائم التاريخ، إنها مجزرة صبرا وشاتيلا.
لا محاسبة..
في الذكرى الثامنة والعشرين للمجزرة، يستغرب مسؤول فتح الإنتفاضة في لبنان حسن زيدان "غياب أي محاسبة لمن ارتكب هذه الجريمة مع أن القاتل يتفاخر بذلك ويعلن طورته على الملأ"، ويتابع زيدان في حديثه لـ"الانتقاد" قائلاً "نتذكّر أكثر من ثلاثة آلاف شهيد قضوا غيلة بقرار إسرائيلي وبتواطؤ مكشوف من قوى عميلة كانت سبباً في إدخال هذا الإسرائيلي إلى لبنان وكانت سبباً في تدمير جزء كبير من مقدرات هذا البلد عبر إفساح المجال لهذا العدو بالتوغل داخل الأراضي اللبنانية". ويضيف أبو إيهاب "لقد حاول الإسرائيلي من خلال هذه المجزرة أن يقول للفلسطينيين واللبنانيين أننا قادرون على خلق بيئة في لبنان تعمل لمصلحة إسرائيل وهدفها ضرب كل فكر مقاوم في هذا البلد، فكانت مجزرة صبرا وشاتيلا عنواناً فاقعاً لعلاقة إسرائيلية مع زمرة باعت نفسها في حينه للشيطان الإسرائيلي وارتضت أن تكون أداة قتل لأبرياء لم يسلموا حتى من أبشع أنواع التعذيب".
ويتابع زيدان "إسرائيل هذه التي أقدمت على إفساح المجال للقتلة لتنفيذ جريمتهم، هي نفسها إسرائيل اليوم التي تحاول أن تخنق الشعب الفلسطيني عبر الظهور أمام العالم أنها راعية سلام وأنها تسعى للسلام مع الفلسطينيين، إنها تحاول أن ترتكب مجزرة جديدة اليوم بإسم ما يسمى بالسلام مع الفلسطينيين وهناك من زال يصدق ويرى في الكيان الصهيوني ضامناً لما يسمى بدولة للفلسطينيين على الرغم من أن إسرائيل نكثت بوعودها عام 1982 بعدما أعطت ضمانات للمجتمع الدولي بأنها ضامنة لحياة المدنيين".
أما لمن لا يزال يفتخر بدوره فبل 28 عاماً يقول أبو إيهاب "آن الأوان للعدل أن بأخذ مجراه وطالما أن القاتل والمجرم يصرّح جهاراً نهاراً دون خجل من تاريخه أنه يفخر بذلك التاريخ، فعلى المجتمع الدولي وعلى كل من يهمه حق الإنسان في الحياة أن يتحرّك لإعادة الحق إلى نصابه وهذا من شأنه أن يردع القتلة والمجرمين الذين لم يحاسبهم أحد طوال هذه الفترة".
أما بالنسبة إلى مصير الدعاوى القضائية التي تقدّم بها البعض لمحاسبة الكيان الصهيوني منذ 10 سنوات فيقول زيدان "لقد كان العالم في حينه جاهزاً ليتقبل فكرة محاسبة القتلة عبر فتح أبواب بعض الدول الأوروبية لإستقبال الدعاوى، لكن على ما يبدو فإن أمريكا الشريك والممول الأساسي لكل ما جرى من تخريب في لبنان إرتأت أن تقول كلمتها وأن تحمي هؤلاء القتلة عبر إقناع الدول المعنية بتلك المحاكم أن لا طائل بعقد تلك المحاكمات للإسرائيليين فجمدت الدعاوى ومنعت الدول من ملاحقة المجرمين". وختم زيدان حديثه لـ"الانتقاد" قائلاً "يبدو أن هذا العالم الذي لا يعرف غير لغة القتل والإعتداء والعدوان لا زال مصراً على التعتيم على ما جرى في صبرا وشاتيلا ولكن عاجلاً أم آجلاً فإن العدل سيأخذ مجراه ولا بد للحقائق أن تظهر وها هي بدأت بالتكشف من خلال أفواه من ارتكبها ومن ساهم فيها".
شهود على المذبحة..
"المجزرة بدأت بعد ظهر يوم الخميس، فبعد الإعلان عن مقتل بشير الجميّل كنا نسير أنا وأصدقائي بإتجاه المدينة الرياضية في الساعة السابعة والنصف صباحاً ولم نكن على علم بوجود شيء، وعند وصولنا إلى هناك رأينا دبابات وكاسحات ألغام إسرائيلية تحاصر المخيّم فجرينا نحو المخيم وبدأنا بتبليغ الناس عما يجري في الخارج، واتجهنا بعدها نحو مدخل المخيّم من جهة منطقة بئر حسن، فسمعنا الناس حينها تصرخ مجزرة .. مجزرة .. عندها توجهنا نحو مستشفى غزّة لمساعدة المصابين". أحداث رسخت في ذاكرة ناصر القاضي أحد الناجين من مجزرة صبرا وشاتيلا، فهو يذكر جيداً ما حصل وكأنه يحدث اليوم حسبما قال لـ"الإنتقاد" وتابع القاضي "نهار الجمعة دخلت قوات العميل سعد حداد والكتائب إلى المستشفى وقاموا بسحب الجرحى وقتلهم ببرودة وأجبروا أربعين مريضاً على الصعود في الشاحنات ولم يعثر على أي منهم فيما بعد، بعدها بدأوا باغتصاب الممرضات وقتلهم حتى أن هناك سائق سيارة إسعاف يدعى زياد زياد وقف بوجههم وأصرّ أن ينقل الجرحى فقتلوه وقطعوا جثته ورموها في المدينة الرياضية. عندها هربت للتفتيش عن أبي وكان عمري 19 سنة، فقال لي بعض الناس أنه مختبئ عند سيدة مسيحية داخل المخيم، فذهبت إليها لإنقاذه وتمكنت من ذلك في اللحظات الأخيرة بعدما كان القتلة قد وصلوا إلى مقربة من المنزل، فرأيتهم بأم عيني، أشخاص بالزي العسكري ويضعون على ملابسهم أرزة خضراء ولم يكونوا صهاينة كما ادعى البعض، فقد تقاسموا الأدوار، الصهاينة بقوا على أبواب المخيم وأمنوا لهم الطريق برمي القنابل المضيئة، أما العملاء فاغتصبوا النساء وهدموا المنازل وقتلوا الناس وذبحوهم حتى اللبنانيين منهم فقط لأنهم يعيشون في وسط الفلسطينيين".
ويضيف القاضي "يوم السبت توجهت نحو المدينة الرياضية بعد دخول الصليب الأحمر وطمأنته لنا، إلا أن القتلة كانوا لا يزالون هناك ورأيتهم مرّة أخرى ببدلتهم وأرزتهم فأطلقوا عليّ النار وأصابوني في قدمي تحت أنظار الصليب الأحمر".
الحاج أبو أحمد
وللرجل التسعيني أبو أحمد قصة أيضاً مع المجزرة ولعلّ ما حصل معه هو الأغرب، يقول أبو أحمد "إجتمعنا أنا و 5 مسنين من أصدقائي في منزل أبو أحمد الصعيد وقررنا التوجه نحو مدخل المخيم لنرى إن كان بإمكاننا التفاهم مع القوات العسكرية الموجودة هناك، فوضعنا قماشة بيضاء على السيارة وذهبنا ولم نكن ندري بعد ما الذي كان يحدث، فقد سمعناهم يطلبون منا عبر مكبرات الصوت أن نتوجه إلى مدخل المخيم ليختموا لنا هوياتنا ويخرجونا من هناك وقد ادعوا أنهم عناصر من الجيش اللبناني. وقبل أن نصل إلى مقصدنا بمسافة قليلة تفقدت هويتي ولم أجدها معي، فطلبت من أصدقائي أن أعود راجلاً حتى لا يوقفوني وهذا ما حصل، فعدت إلى المخيّم وسلمت أما هم فقُطعوا". ويتابع أبو أحمد "عندما توقفت المجزرة ذهبت إلى هناك ولم أجد أثراً لهم سوى البلطة التي قطعوهم بها فأخذتها واحتفظت بها، ولكننا عدنا ووجدنا قدم زوج شقيقتي علي الدوخي الإصطناعية مرمية في مقبرة الشهداء أما أشلاء جثته وجثث أصدقائي فلم نعثر عليها أبداً".
ويضيف أبو أحمد "كانت الآثار التي تركتها ورائها قوات العميل سعد حداد والكتائب والقوات شنيعة جداً، وقد بدت آثار التعذيب جليّة على جثامين الشهداء، فمنهم من قُطع ومنهم من هرس بالجرافات وآخرين تم حرقهم بمادة الإسفلت، وبعض العائلات استشهدت تحت ركام منازلها التي هدمت فوق رؤوس قاطنيها".
الحاجة أم فؤاد
أم فؤاد السبعينية تتذكر ما حصل معها منذ 28 سنة وكأنه كابوس مرعب فتقول "عندما بدأوا بإطلاق القذائف هربنا ومئات العائلات إلى الملجأ واختبأنا هناك حتى أتى شخص اسمه ابراهيم وأبلغنا أن العملاء أصبحوا قريبين منا طالباً إخلاء الملجأ بسرعة فلجأنا إلى المسجد وقضينا الليلة هناك. في اليوم التالي توجهنا إلى المنزل لأخذ بعض الأغراض إلا أنهم رأونا ونادوا علينا لتسليم أنفسنا مدعين أنهم إخواننا وكانوا يتكلمون اللهجة اللبنانية، فهربنا منهم زحفاً وتحت القصف متجهين إلى المسجد مرّة أخرى. انتظرنا حتى اليوم الثالث لنذهب إلى المنزل مرّة أخرى ونأتي ببعض الحاجيات، وفي طريق عودتنا رأينا جثث الناس إلى جانب الطريق وعند وصولنا إلى المسجد وجدنا جثّة امرأة مذبوحة عند بابه فأصبت بانهيار عصبي متخيلة مصيري لو استطاعت يد الإجرام أن تطالني".. تسكت أم فؤاد للحظات وقد ملأت عيناها الدموع ثم تقول في حرقة "حتى اللحظة لم نفهم لماذا ذبحنا!"
في صبرا وشاتيلا قُتل الناس دون رحمة، فاغتصبت النساء وذبح الأطفال وقطع الشيوخ، في غياب تام لما سمّي بالضمانات الدولية لحماية المدنيين الفلسطينيين. آنذاك رفع أهالي المخيّم الأعلام البيضاء إلا أن من رفعها كان من الضحايا الأوائل في المذبحة، وفي مقدمتهم أكثر من خمسين امرأة ذهبن للإعلان عن استسلامهن وللقول أنه لا يوجد مسلحين في المخيم فاغتصبوا وقُتلوا جميعاً. وبعد الإنتهاء من تنفيذ المهمّة قامت الجرافات بحفر المقابر الجماعية في وضح النهار حيث دفن القتلة خطاياهم ورقصوا فوق أشلاء الشهداء محتفلين مع الصهاينة بمناسبة السنة العبرية الجديدة !
فإلى متى ستبقى وصمة العار التي دمغت جبين السلطة اللبنانية في حينه واضحة المعالم وفي ظل غياب من يحاسب ومن يحاكم؟
ألا يستحق أكثر من 3200 شهيداً فلسطينياً ولبنانياً محكمة دولية للإقتصاص ممن قتلهم أم أنه زمن المفاخرة بالعمالة.. حتى "البلطات" ؟